الثلاثاء، 1 ديسمبر 2009

إلى الأستاذ إبراهيم عبد المجيد : كل عام وأنت بإلف خير .


في يوم ميلاد الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد ، أحببت أن أُ عيد تشر المقال البديع:

إبراهيم عبد المجيد «هُزِمَ» في العشرين

للكاتب الجميل محمد خير المنشور في جريدة الأخبار اللبنانية على مدونتي ، كل عام وحضرتك بيننا في أتم صحة وسعادة


محمد خير

•البحث عــن الزمن المفقود (في الاسكندريّة)
أحد رموز السبعينيات في الأدب المصري، جاءه من هامش المدينة التي خصّها داريل برباعيّته الشهيرة. روايته «شهد القلعة» مرشّحة لجائزة «بوكر» العربية. في انتظار الجزء الثالث من «ثلاثيّة الاسكندريّة»... عن نكسة لا شفاء منها!

كان جالساً يكتب حيرةَ بطله الأكثر شهرة «شجرة محمد علي» في رواية «بيت الياسمين». في تلك الليلة هجمت الشرطة على منزل «شجرة» وقبضت عليه، كان السجين مدهوشاً: كيف استطاعوا فتح سلسلة الباب المغلق من الداخل؟
لكنّه لم يجد وقتاً ليجيب عن السؤال. وسط حيرته، اقتحم البوليس فعلاً منزل المؤلف إبراهيم عبد المجيد (1946) في تلك الليلة نفسها من شتاء 1985، اعتقلوه بين آخرين احتجّوا على مشاركة اسرائيل في المعرض الصناعي الزراعي في مصر ذلك العام. ومع أنّ الضابط كان متعاطفاً ورفض المساس بمسودة الرواية التي لم يكن المؤلف قد انتهى منها بعد، فإنّ صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية» ما زال عاجزاً عن معرفة كيفية فتح البوليس سلسلة الباب من الخارج.
لم تكن تلك السمة المشتركة الوحيدة بين حياة عبد المجيد وأبطال رواياته: في «الصياد واليمام» (1980) يذهب الصياد بحثاً عن فرائسه، ولا يعود. وكذلك الفيلم المقتبس عن الرواية، ويلعب بطولته أشرف عبد الباقي (إخراج اسماعيل مراد)، فقد انتهى تصويره منذ أمد، لكنّه لم يخرج إلى النور، ذهب ولم يعد تماماً كالصياد التائه. لكنّ إبراهيم لم يعد يسأل عن مصير أعماله، بعدما خرجت من الكتب. لهذا، يرفض التعليق على مسلسل «لا أحد ينام في الإسكندرية» الذي عُرض في رمضان الماضي بعد مشكلات امتدت سبع سنوات. «انتهت مهمتي عند كتابة العمل. بعد ذلك هو مسؤولية أهل الدراما». يؤكد في ملمح إضافي يشير إلى تأثره بنجيب محفوظ. تأثر في بداياته أيضاً بإدوار الخراط، لكنّه ابتعد عنه لاحقاً «أسلوبه صعب ومرهق. وصحتي لا تتحمّل».
عاماً تلو آخر، وروايةً تلو أخرى، بنى إبراهيم عبد المجيد مشروعه الأدبي، ورسّخ اسمه تدريجاً بين كبار الروائيين المصريين. يكتب بانتظام طوال الشتاء، كل عام... في ساعات محددة. وهو ملمح محفوظي آخر قد يكون هو سبب اعتباره من أغزر كتّاب جيله. منذ روايته الأولى «الصيف السابع والستين» (1979) حتى «شهد القلعة» في 2007، أصدر 12 عملاً روائياً، وخمس مجموعات قصصية ومسرحية واحدة. بل لم يمر شهران على روايته الجديدة الصادرة عن «دار الدار» حتى أصدرت «دار الشروق» طبعةً جديدةً من روايته الأشهر «لا أحد ينام في الإسكندرية» (1996). قبل ذلك برز حضوره الأدبي من خلال«البلدة الأخرى» التي صدرت عام 1990، وتحكي تجربة العمل في السعودية كما عاشها عام 1978، حيث أمضى 11 شهراً، وخرج برواية تعدّ الأهم في سياق كتابة المصريين عن هجرة النفط. «كثيرون قالوا إنهم رفضوا العمل في الخليج بعد قراءة «البلدة الأخرى»». كان العمل هناك أقرب إلى «العار» للمثقفين المصريين في نهاية السبعينيات: «عندما كنت أقابل نجيب سرور في إجازاتي، لم أكن أقول له إنني في السعودية بل في الإسكندرية».
غادر إبراهيم عبد المجيد الإسكندرية إلى القاهرة في السابعة والعشرين من العمر، إلا أنّه يراها المدينة الأهم في نصوصه. وبعد أكثر من 30 عاماً في القاهرة، ما زال يرى نفسه «سكندرياً» صرفاً... وإن غابت اللكنة عن لهجته. ينتمي عبد المجيد إلى هامش تلك المدينة، فهو ولد ونشأ في حي كرموز الشعب. ومن ضواحي الاسكندرية والبحيرات المحيطة بها، استمد كثيراً من عناصر كتابته الأولى، ثم عاد إلى الإسكندرية بصورة أشد عطشاً. السبب؟ «عندما نتقدم في العمر تستيقظ ذاكرتنا الأولى». استمد مادته الأدبيّة من سير غرباء الضواحي،ـ من قصص التائهين والمغدورين وعرائس البحر.
وهو لم ينته بعد من ثلاثيته عن الإسكندرية. «لا أحد ينام في الإسكندرية» تناولت المدينة الكوزموبوليتية في الأربعينيات، فيما تناولتها «طيور العنبر» في الخمسينيات. أمّا الرواية الثالثة، فنعرف أنّها ستعود إلى مرحلة النكسة، عبر مناخات غير بعيدة عن روايته الأولى التي تحمل صدمة الهزيمة. «نحن جيل تلقى هزيمته في العشرين»، يقول. ويروي كيف كان في رحلة عائليّة إلى منطقة مرسى مطروح، حين توقف الجميع في استراحة عند مقابر جنود الحلفاء في معركة العلمين. بدأ يحكي لأبنائه عن الحرب العالمية الثانية التي ألقت ظلالها ـــــ وقنابلها ـــــ على اسكندرية الأربعينيات. في تلك اللحظة ولد مشروع «الإسكندرية». أخبر به مصطفى نبيل الذي كان يرأس «دار الهلال»، واتفقا على تسليم الجزء الأول بعد عامين، أي في مناسبة الذكرى الخمسين لمعركة العلمين (1992). يضحك عبد المجيد: «الكتابة لا تعترف بالجداول الزمنية. لم أنته من الرواية إلا في 1996 ونشرت في العام نفسه». فازت الرواية بأفضل عمل روائي في «معرض القاهرة الدولي للكتاب» ذلك العام، وباعت آلاف النسخ، وما زالت حاضرة إلى اليوم على رفوف المكتبات. صدر منها حتى الآن سبع طبعات، (خارج القرصنة طبعاً).
لكن «دار الهلال» لم تُبدِ الحماسة نفسها إزاء «البلدة الأخرى». ترددت الدار العريقة في نشر الرواية التي تنتقد عصر النفط بعنف. هكذا، تلقّفت «رياض الريس» الرواية التي حققت أول نجاح كبير في مشوار المؤلف. وأعادت الدور المصرية طبعها بعد ذلك. ثم أصدر عبد المجيد مجموعتين قصصيتين وأربع روايات واصل فيهما تجربته الأدبيّة التي تقوم على تقاطع الواقع بالأسطورة.
عن تلك التجربة يقول: «اندفعت إلى الأسطورة بعدما تركت تنظيماً شيوعياً سرياً كنت أنتمي إليه في السبعينيات. ذهبت إلى الناحية الأخرى من الواقعية الاشتراكية، فسلكت في روايتي «المسافات» كتابة غرائبية. أما «الصياد واليمام» فكانت جزءاً من «المسافات» كتبته في عمل مستقلّ. في تلك المرحلة، أضفيت الروح على كل الجمادات. كذلك تأثرت بدراسة الأنثربولوجيا». رحلته لم تكن مع المضمون فحسب بل مع الشكل أيضاً. في «ليلة العشق والدم»، يؤلّف صوره من جمل مرئية، يلعب في تركيب الجمل: إذ يكتب مثلاً «من الحلوى قطعتين تأخذ»، بدلاً من «تأخذ قطعتين من الحلوى». أما التسجيلية التي اعتمدها في نصّه «في الصيف السابع والستين» (1979)، فعادت إليه في «لا أحد ينام...» و«طيور العنبر». وهو يرى أنّ الأخيرة ظُلِمت كثيراً، ويراها أفضل وأكثر تطوراً وجمالية من سابقتها.
أما رواية «بيت الياسمين»، فكوميديا سياسية فرضتها تناقضات السبعينيات، بطلها «شجرة» شخصية حقيقية، وكان صديقاً لابراهيم عبد المجيد، بعث إليه برسالة أثناء عمله في السعودية طالباً مبلغاً من المال. كان «شجرة» يعمل في مصلحة حكومية تم نقل موظفيها في حافلات، ليستقبلوا الرئيس الأميركي السابق نيكسون إبان الحقبة الساداتية. وبما أن «شجرة» كان مسؤولاً عن «الرحلة»، فقد عرض على زملائه اقتسام البدل المالي، تاركاً لكل منهم أن يذهب إلى بيته إذا رغب في ذلك. وبعد أن افتضح أمره اضطر للاستدانة وتسديد الفلوس. وجد إبراهيم في الحكاية مدخلاً إلى شخصية البطل في «بيت الياسمين» فجعله يفعل الشيء نفسه. لكنّه واجه مصيراً أسوأ عندما اختلط الأمر على الشرطة، وخلطت بينه «بصفته متعهد تظاهرات تأييد» وبين قادة تظاهرات 18 و19 كانون الثاني/ يناير، فتم اعتقاله.
السبعينيات في مصر هي للرواية مثلما الستينيات للقصة. في هذا العهد تغيرت كل الأفكار والمبادئ والأهداف في ليلة واحدة. جيل عبد المجيد الذي تربّى على الاشتراكية والأفكار القومية ومعاداة اسرائيل، صحا ذات يوم ليجد نفسه مطالباً بالانتقال الى الموقع النقيض. خلق ذلك فيضاً عارماً من الحكي، يجمع المأساة والملهاة... وفتح باب الحكي على مصراعيه. هكذا، بدأ زمن الرواية: «اشتركنا جميعاً في الكتابة في موضوع واحد. من دون اتفاق كتبنا عن المدن التي تباع وتهدر». ويؤكد ابراهيم:«الرواية ابنة المناخ السبعيني. لكنّني مبدع ولست ناقداً. لهذا لا يأخذون كلامي على محمل الجد». يجمع النقاد وأقرانه على تصنيفه ضمن جيل السبعينيات، لكنّه يتحفّظ على تلك الخانة الحصريّة: «لست ستينياً ولا سبعينياً. لا أحد غيرنا يصنف الكتّاب على أساس انتمائهم لعقد زمني واحد. التصنيف المنطقي هو الفرز إلى مدارس واتجاهات ومشروعات كتابة. لا بد من قنوات لتصنيف الإبداع. لماذا نغفل قصص نجيب محفوظ ونسجنه في قالب «الروائي»، فيما نقصر حضور يوسف إدريس على نتاجه القصصي ونغيّب رواياته؟».
ويتذكّر عبد المجيد: «كان المدرّس يأخذنا إلى حصتين أسبوعياً من المطالعة الحرة، ويناقشنا فيما نقرأ. في مدارس اليوم مدرسون يفتون للتلاميذ يأن الأدب حرام، وكذلك الفنّ والسينما، وفي مناهج التعليم المصرية لا وجود لرموز التنوير». وإذا كان المجتمع قد عاد إلى مناقشة قضايا أولية يفترض أنّه حسمها في النصف الأول من القرن العشرين، فإن أدبنا يلقي بالمسؤوليّة على عاتق النخبة. «لا بد من مجهود أكبر، لا بد من المزيد من الرعاية الثقافية من مؤسسات المجتمع المدني، مع ضرورة تحديث القطاع العام الذي يبقى منوطاً به الدور الأساسي في رعاية الثقافة».
موظف في وزارة الثقافة أحيل على التقاعد قبل ستة أشهر. لكن هو لا يرى ذلك «بعد 30 عاماً من العمل في الوزارة، لم أحصل على ترقية. وعندما استلزم الأمر صداماً إبان أزمة الروايات الثلاث التي صادرتها الدولة عام 2002، استقلت من رئاسة تحرير سلسلة كتابات جديدة». كان أمام عبد المجيد خياران عندما جاء من الإسكندرية: الصحافة أو وزارة الثقافة. عمل صحافياً حراًً لمصلحة صحف عربية في البداية، ثم وظفه سعد الدين وهبة في وزارة الثقافة «عينت بالوزارة لأن قصصي أعجبت وهبة، وفضلت الوظيفة لسبب نفعيّ تماماً، هو أنني لم أضطر للعمل خلالها تقريباً وتفرّغت للكتابة».


http://www.al-akhbar.com/ar/node/54544